فصل: (فرع: الذكر في الإعتدال)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: قصد فعل الأركان]

قال الشافعي: (فإن ركع رجل، وبلغ الموضع الذي لو أراد أن يقبض بيديه على ركبته أمكنه، ثم أراد أن يرفع رأسه، فسقط على وجهه.. أجزأه ركوعه، وكان عليه أن ينتصب قائمًا، ثم يهوي ساجدًا).

.[مسألة:الرفع من الركوع]

ثم يرفع رأسه من الركوع، ويعتدل، وذلك واجب.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب، بل لو انحط من الركوع إلى السجود.. أجزأه).
واختلف أصحاب مالك في مذهبه:
فمنهم من قال: هو واجب عنده. كقولنا.
ومنهم من قال: مذهبه: أنه ليس بواجب عنده. كقول أبي حنيفة.
دليلنا: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي: «ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا».
وروى أبو مسعود الأنصاري البدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه من الركوع والسجود».
إذا ثبت هذا: فإن السنة عندنا أن يجمع بين ثلاثة أشياء:
أن يبتدئ مع الرفع بقول: سمع الله لمن حمده، وأن يرفع يديه مع رفع صلبه، حتى يحاذي بهما منكبيه.
فإذا استوى قائمًا.. قال: ربنا لك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض، وملئ ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء، والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
وإن قال: (ربنا ولك الحمد).. فقد روي ذلك، وذكر الشيخ أبو حامد: ما يقوله العبد حق، وكل لك عبد.
قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (فإن قال: اللهم ربنا لك الحمد، أو الحمد لربنا، أو قال: من حمد الله سمع له.. جاز)؛ لأن معنى الجميع واحد، إلا أن الأولى أن يأتي بالأول؛ لما روى أبو سعيد الخدري: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول ذلك).
ومعنى قوله: (سمع الله لمن حمده) أي: تقبل الله منه حمده، وأجاب حمده. تقول العرب: اسمع دعائي، أي: أجب دعائي.
ومعنى قوله: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) أي: لا ينفع ذا الغنى منك غناه، إنما ينفعه العمل الصالح.

.[فرع: الذكر في الإعتدال]

ويستحب للإمام والمأموم أن يأتي بجميع هذا الذكر.
وقال أبو حنيفة: (الإمام يقول: سمع الله لمن حمده، ولا يزيد عليه، والمأموم يقول: ربنا لك الحمد، ولا يقول: سمع الله لمن حمده).
واختاره ابن المنذر؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد».
وقال مالك، والأوزاعي، والثوري، وأبو يوسف، ومحمد: (يأتي الإمام بهما، والمأموم يقتصر على قوله: سمع الله لمن حمده).
دليلنا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول ذلك كله، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي».
ولأنه ذكر مسنون في الانتقال للإمام، فسن للمأموم، كالتكبيرات.
وأما قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده.. قولوا: ربنا لك الحمد».. فيحتمل: أن يكون قال لهم ذلك؛ لأنهم لا يسمعون الإمام يقولها، وإنما يجهر بقوله: سمع الله لمن حمده. ولم يأمرهم بها؛ لأن المأمومين مقتدون بالإمام في جميع الأذكار، فاقتصر على تعريفهم ما لا يجهر به، دون ما يجهر به.
ويجب أن يطمئن قائمًا: فلو سجد، ثم شك، هل رفع رأسه من الركوع أم لا؟ وجب عليه أن ينتصب، فإذا انتصب.. سجد.
وإن أتى بقدر الركوع الواجب، فاعترضته علة منعته عن الانتصاب.. فإنه يسجد من ركوعه، ويسقط عنه الرفع؛ لتعذره.
فإن زالت العلة.. نظرت:
فإن زالت قبل أن يبلغ بجبهته إلى الأرض.. فإنه يرتفع، وينتصب، ويسجد؛ لأن العلة زالت قبل فعله لركن، أو فعل مقصود.
وإن زالت بعد ما حصلت جبهته على الأرض ساجدًا.. فإنه لا ينتصب، ويسقط عنه؛ لأن السجود قد صح، فسقط ما قبله.
فإن خالف، وانتصب من السجود قبل تمامه، فإن كان عالمًا بتحريمه.. بطلت صلاته، وإن كان جاهلاً.. لم تبطل، ويعود ويجلس للفصل بين السجدتين، ويسجد للسهو.

.[مسألة:فرضية السجود]

ثم يسجد، وهو فرض.
والدليل عليه: الكتاب، والسنة، والإجماع الذي ذكرناه في الركوع.
ويكبر؛ لما ذكرناه من حديث ابن مسعود.
ويستحب أن يكون ابتداء التكبير مع ابتداء انحنائه إلى السجود، حتى يكون آخر التكبيرة مع أول السجود، هذا نقل أصحابنا البغداديين، وهو المشهور، وحكى صاحب "الإبانة" [ق \ 65] فيه قولين:
أحدهما: هذا، وهو قوله الجديد.
والثاني: لا يمده، وبه قال أبو حنيفة.
دليلنا: أن الهوي إلى السجود فعل في الصلاة، فاستحب مد التكبير فيه؛ لئلا يخلو من ذكر، كسائر أفعال الصلاة.
والمستحب: أن يكون أول ما يقع منه على الأرض في السجود: ركبتاه، ثم يداه، ثم جبهته وأنفه، وبهذا قال عمر بن الخطاب، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه.
وقال الأوزاعي: (المستحب أن يكون أول ما يقع منه على الأرض في سجوده: يداه، ثم ركبتاه).
وقال مالك: (إن شاء وضع اليدين أولا، وإن شاء وضع الركبتين أولاً).
دليلنا: ما روى مصعب بن سعد، عن أبيه، قال: «كنا نضع اليدين قبل الركبتين، فأمرنا بالركبتين قبل اليدين».
وروى وائل بن حجر، قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سجد، وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض، رفع يديه قبل ركبتيه».
والأكمل في السجود: أن يسجد على جبهته، وأنفه، وكفيه، وركبتيه، وقدميه؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسجد على سبعة: يديه، وركبتيه، وأطراف أصابعه، وجبهته».
وروى أبو حميد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد، ومكن جبهته وأنفه من الأرض».
والواجب عندنا: هو السجود على الجبهة، دون الأنف، وبه قال الحسن، وابن سيرين، وعطاء، وطاوس، والثوري، وأبو يوسف، ومحمد.
وقال سعيد بن جبير وعكرمة والنخعي وإسحاق: يجب السجود عليهما، ولا يجوز الاقتصار على أحدهما.
وحكاه أبو زيد المروزي قولاً لنا، وليس بمشهور.
وقال أبو حنيفة: (إذا اقتصر في السجود على أحدهما.. أجزأه).
قال ابن المنذر: ولا أعلم أحدًا سبقه بهذا القول.
دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسجد على سبعة: يديه، وركبتيه، وأطراف أصابعه، وجبهته»، ولم يذكر الأنف، وما كان مأمورًا به لا يجوز تركه.
وروى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا سجدت.. فمكن جبهتك من الأرض»، ولم يذكر الأنف.
وروي عن جابر: أنه قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسجد بأعلى جبهته على قصاص الشعر».
ومعلوم: أنه إذا سجد كذلك.. لم يسجد على الأنف.
فإن كان بجبهته جراحة، فعصبها بعصابة، وسجد على العصابة.. أجزأه؛ لأنه لما جاز ترك أصل السجود؛ لعذر.. فلأن يجوز ترك مباشرة الجبهة لعذر أولى.
والمستحب: أن يسجد على جميع جبهته؛ لحديث أبي حميد، فإن سجد على بعض الجبهة.. أجزأه؛ لحديث جابر.
وكذلك لو عصب على جبهته بعصابة مشقوقة، وسجد عليها، وماس بعض جبهته الأرض من شق العصابة.. أجزأه، كما لو سجد بأعلى جبهته.
وإن سجد على حائل متصل به، مثل كور عمامته، أو طرف منديله، أو ذيله، أو بسط كفه، فسجد عليه.. لم يجزئه ذلك، وبه قال مالك، وأحمد بن حنبل.
وقال أبو حنيفة: (يصح سجوده على ذلك كله).
دليلنا: ما روى رفاعة بن رافع: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقبل الله صلاة امرئ، حتى يضع الوضوء مواضعه...»، إلى أن قال: «ثم يسجد، فيمكن جبهته من الأرض، حتى تطمئن مفاصله».
وهل يجب السجود على اليدين، والركبتين، والقدمين؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب، وبه قال أبو حنيفة، وأكثر الفقهاء. قال في "المهذب": وهو الأشهر.
ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سجد وجهي»، فأضاف السجود إلى الوجه، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا سجدت.. فمكن جبهتك من الأرض»، ولم يذكر ما عداها، فدل على أنه لا يجب السجود على ما عداها.
ولأنه لا يجب الإيماء بباقي الأعضاء في السجود عند العجز، فدل على أنه لا يجب السجود عليها.
والثاني: يجب السجود عليها. قال الشافعي: (وهذا قول يوافق الحديث).
ووجهه: حديث ابن عباس: «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسجد على سبعة...» الخبر.
فإذا قلنا: لا يجب السجود عليها، إلا أنه لا يمكنه أن يسجد، إلا بأن يعتمد على بعض هذه الأعضاء.. فله أن يعتمد على أيها شاء، ويرفع أيها شاء.
وإذا قلنا: يجب السجود عليها... قال الشافعي في "الأم" [1/99] (فإن سجد على ظهر كفيه.. لم يجزئه، وكذلك إن سجد على حرف راحته، مما يلي ظهر كفه..
لم يجزئه، وإن سجد على بعض كفيه.. جاز، كما يجزئ بعض جبهته).
قال في "الفروع": وإن سجد على ظاهر قدميه.. أجزأه.
وأما كشف هذه الأعضاء في السجود: فلا يجب كشف القدمين والركبتين؛ لأن كشف ذلك يؤدي إلى بطلان الصلاة، وذلك أن الركبتين من العورة، وقد يكون لابسًا للخف.. فتبطل الطهارة بكشف القدم، فتبطل الصلاة بذلك.
وهل يجب كشف الكفين؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب؛ لما روي عن خباب بن الأرت: أنه قال: «شكونا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا، فلم يشكنا».
ولأنه عضو له مدخل في التيمم.. فوجب كشفه في السجود، كالوجه.
والثاني: لا يجب؛ لأنه عضو لا يبرز في العادة إلا لحاجة، فلم يجب كشفه في السجود، كالركبتين والقدمين.
وأما الخبر: فيرجع إلى الجباه، دون الأكف.
قال في "الأم" [1/99] (فإن هوى الرجل ليسجد، فسقط على جنبه، ثم انقلب، فماست جبهته الأرض، فإن كان بانقلابه نوى السجود.. أجزأه، وإن لم ينوه.. لم يجزئه)؛ لأنه إذا سقط على جنبه... فقد خرج عن سمت السجود، فلا يرجع إليه إلا بفعل، أو نية.
فالفعل: هو أن يعود جالسًا، ثم يسجد. والنية: أن ينوي بانقلابه السجود.
وتجب الطمأنينة في السجود، وهو أن يلبث لبثا ما.
وقال أبو حنيفة: (لا تجب).
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم اسجد، حتى تطمئن ساجدًا».
والكمال في السجود: أن يجافي مرفقيه عن جنبيه، حتى لو لم يكن عليه ثوب رؤيت عفرة إبطيه؛ لما روى جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سجد.. جافى عضديه عن جنبيه، حتى يرى بياض إبطيه».
ويقل بطنه عن فخذيه؛ لما روى البراء بن عازب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سجد.. جخ»، وروي: (جخى). و (الجخ): الخاوي.
وروي عن ميمونة: أنها قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سجد.. جافى يديه، حتى لو أرادت بهمة أن تمر تحته.. لمرت».
وإن كانت امرأة.. ضمت بطنها إلى فخذيها؛ لأن ذلك أستر لها.
ويضع يديه حذو منكبيه، ويضم أصابعهما، ويضم إبهامه إليها، ويستقبل بها القبلة؛ لما روى وائل بن حجر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سجد.. ضم أصابعه، وجعل يديه حذو منكبيه».
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سجد.. وضع أصابعه تجاه القبلة».
والفرق بين الركوع والسجود في ضم الأصابع: أنه إذا فرق أصابع يديه في الركوع على ركبتيه.. كان أمكن لركوعه، وأمن من السقوط، وفي السجود لا يخاف السقوط.
ولأنه إذا ضم أصابعه في السجود.. استقبل بها القبلة، ولو فرقها.. لم يستقبل بها القبلة، وفي الركوع لا يستقبل بها القبلة، سواء ضمها، أو فرقها.
ويرفع مرفقيه، ويعتمد على راحتيه؛ لما روى البراء بن عازب: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا سجدت.. فضم كفيك، وارفع مرفقيك».
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا سجد أحدكم.. فلا يفترش ذراعيه افتراش الكلب».
ويفرج بين رجليه؛ لما روى أبو حميد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سجد.. فرج بين رجليه».
وينصب قدميه؛ لما روى سعد بن أبي وقاص: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بوضع اليدين، ونصب القدمين»، يعني: في السجود.
ولا يكف شعره، ولا ثوبه عن الأرض؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسجد على سبعة، وألا يكف شعرًا ولا ثوبًا». وروى: (ولا يكفت)، والكفت: الجمع.
ويستحب أن يقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى، ثلاثًا، وذلك أدنى الكمال؛ لما ذكرناه من حديث ابن مسعود.
وروى عن عقبة بن عامر: أنه قال: «لما نزل قَوْله تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 96].. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجعلوها في سجودكم».
قال ابن الصباغ، والشيخ أبو نصر: ويزيد: (وبحمده)؛ لما مضى في الركوع.
وأكمل الكمال: أن يقول مع ذلك، ما روى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في سجوده: اللهم لك سجدت، ولك أسلمت، وبك آمنت، وأنت ربي، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، بحوله وقوته، فتبارك الله أحسن الخالقين».
ويستحب أن يدعو في سجوده بما أحب من أمر دينه ودنياه؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو في سجوده، فيقول: اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، آخره وأوله، علانيته وسره».
قال الشافعي في بعض كتبه: (يقول في سجوده: سجد وجهي حقًا حقًا، تعبدًا ورقًا).
قال الشافعي في "الأم" [1/100] (ويجتهد في الدعاء، رجاء الإجابة، ما لم يكن إمامًا، فيثقل على من خلفه، أو مأمومًا، فيخالف إمامه).
وقال في " الإملاء ": لا يزيد على الدعاء الذي ذكرناه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والأول أصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد، فأكثروا فيه من الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم».
ومعنى قوله: " فقمن "، أي: جدير، وحقيق، وحري أن يستجاب لكم، وقد روي بفتح الميم وكسرها.
ويكره أن يقرأ في الركوع أو السجود؛ لما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إني نهيت أن أقرأ راكعًا، أو ساجدًا».

.[مسألة:الرفع من السجود]

ثم يرفع رأسه مكبرًا؛ لحديث أبي هريرة، ويكون ابتداء التكبير مع ابتداء الرفع،
ويمده، حتى ينتهي إلى آخره مع انتهاء الرفع؛ لئلا يخلو فعل من ذكر. ويجب عليه أن يطمئن في هذا الاعتدال.
وقال أبو حنيفة ومالك: (لا يجب عليه الطمأنينة فيه، فمتى رفع رأسه رفعًا ما.. أجزأه)، حتى حكي عن أبي حنيفة: أنه قال: (لو رفع جبهته بقدر ما يدخل بين جبهته والأرض سمك سيف.. أجزأه). وقال مالك: (يعتبر ما كان أقربه إلى الجلوس)، وكذلك يقول في الاعتدال عن الركوع: (ما كان أقربه إلى القيام).
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم يرفع رأسه من السجود، حتى يطمئن جالسًا».
وأما الكلام في صفة هذا الجلوس: فقال الشافعي: (هو أن يثني رجله اليسرى، ويقعد عليها، وينصب قدمه اليمنى).
وحكى أبو علي في "الإفصاح"، عن الشافعي قولاً آخر: (أنه يجلس على صدور قدميه)، والأول هو المشهور؛ لما روي: أن أبا حميد الساعدي وصف صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فلما رفع رأسه من السجدة الأولى.. ثنى رجله اليسرى، وقعد عليها، واعتدل، حتى يرجع كل عظم إلى موضعه».

.[فرع: كراهة الإقعاء]

ويكره الإقعاء في الجلوس، وروي عن العبادلة: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن العباس، وعبد الله بن الزبير: أنهم قالوا: (هو من السنة)، وبه قال نافع، وطاوس، ومجاهد.
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الإقعاء في الصلاة»، وروى علي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لي: يا علي، أحب لك ما أحب لنفسي، وأكره لك ما أكره لنفسي، لا تقع بين السجدتين».
واختلف في تأويله: فقال أبو عبيدة: هو أن ينصب ساقيه معًا على الأرض، ويجلس على أليتيه.
وقال أبو عبيد: وسمعت أهل العلم يقولون: (الإقعاء): هو أن يفترش رجليه، ويجلس على عقبيه.
هكذا ذكر في "التعليق"، وذكر في "المهذب" تأويلاً آخر، فقال: هو أن يجعل يديه على الأرض، ويقعد على أطراف أصابعه.
وأما الذكر في الجلوس بين السجدتين: فلم يذكر الشافعي فيه شيئًا، ولكن قد روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي، وارحمني، واجبرني، وارفعني، واهدني، وارزقني»،
وفي رواية أم سلمة: «واهدني للسبيل الأقوم، وعافني».
والمستحب: أن يقول ذلك.
وقال أبو حنيفة: (ليس فيه ذكر مسنون).
دليلنا: ما ذكرناه من الخبر، ولأن أفعال الصلاة مبنية على أن لا ينفك شيء منها من ذكر الله.

.[مسألة:السجدة الثانية]

ثم يسجد سجدة ثانية على ما ذكرناه في الأولى من التكبير وغيره.
فإذا رفع رأسه منها.. فروى المزني: (أنه يستوي قاعدًا، ثم ينهض)، وقال في "الأم" [1/101] (يقوم من السجدة الثانية).
واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا يجلس، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق؛ لما روى وائل بن حجر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رفع رأسه من السجود.. استوى قائمًا بتكبيرة».
والثاني: يجلس؛ لما روي: أن أبا حميد ذكر ذلك في وصفه صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وروي عن مالك بن الحويرث: «أنه رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي، فكان إذا كان في وتر من صلاته.. لم ينهض، حتى يستوي جالسًا».
وقال أبو إسحاق: هي على حالين: فإن كان ضعيفًا.. جلس؛ لأنه يحتاج إليها للاستراحة، وإن كان قويًا.. لم يجلس؛ لأنه لا يحتاج إليها.
فإذا قلنا: لا يجلس.. فإنه يبتدئ بالتكبير مع ابتداء الرفع، وينتهي به مع انتهاء الرفع، وذلك عند أول حالة القيام.
وإذا قلنا يجلس للاستراحة.. فإنه يجلس مفترشًا؛ لما روي: أن أبا حميد ذكر ذلك في وصفه صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومتى يبتدئ بالتكبير؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: وهو قول أبي إسحاق -: أنه يبتدئ بالتكبير عند ابتداء رفع رأسه من السجود، وينتهي به إلى حالة الجلوس، ثم يقوم من غير تكبير؛ لأن التكبير - هاهنا - للرفع من السجود، لا للقيام.
والثاني: من أصحابنا من قال: يطيل التكبير، ولا يطيل الجلوس، ويتم التكبير في حال النهوض إلى القيام، وهذا أشبه بأفعال الصلاة؛ لأن أفعالها لا تخلو من ذكر.
وحكى في "الإبانة" [ق \ 66] أن القفال كان يقول: لا يكبر عند رفع الرأس من السجود، بل عند الرفع من الجلسة، ثم رجع عنه.
وهل تكون هذه الجلسة فصلاً بين الأولى والثانية؟ فيه وجهان:
أحدهما: وهو قول ابن الصباغ -: أنها لا تكون من الأولى، ولا من الثانية، بل تكون فضلا بينهما، كالتشهد الأول.
والثاني - يحكى عن الشيخ أبي حامد -: أنها من الثانية؛ لأنه يبتدئ بالتكبير بعد الفراغ من الأولى، وهذا مخالف لأصل الصلاة؛ لأنه ليس في الصلاة الواجبة جلوس في ابتداء ركعة، فثبت أنها فصل بينهما.
وإذا أراد القيام إلى الركعة الثانية، إما من السجدة الثانية، أو من جلسة الاستراحة..
فإنه يقوم معتمدًا على الأرض بيديه، وحكي ذلك عن ابن عمر، وعمر بن عبد العزيز، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق.
وقال الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه: (لا يعتمد على الأرض بيديه، وإنما يعتمد على صدور قدميه). وروي ذلك عن علي، وابن مسعود.
دليلنا: ما روي عن مالك بن الحويرث، في صفة صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «فلما رفع رأسه من السجدة الأخيرة في الركعة الأولى، واستوى قاعدًا.. قام، واعتمد على الأرض بيديه».
قال الشافعي: (ولأن ذلك أشبه بالتواضع، وأعون للمصلي).
قال ابن الصباغ: ويرفع يديه من الأرض قبل ركبتيه؛ لما روى وائل بن حجر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سجد.. وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض.. رفع يديه قبل ركبتيه».
ولأن اليدين، لما تأخر وضعهما.. تقدم رفعهما، كالجبهة.
ولا يرفع يديه إلا في المواضع الثلاثة التي ذكرناها، وهي: عند تكبيرة الإحرام، وعند تكبيرة الركوع، وعند الرفع منه.
وقال أبو علي في "الإفصاح": يستحب ذلك كلما قام إلى الصلاة من سجود، أو تشهد. وهو قول ابن المنذر.
قال ابن المنذر: هذا باب أغفله كثير من أصحابنا، وقد ثبت فيه حديث أبي حميد الساعدي، وروي في حديث علي أمير المؤمنين أيضًا.
دليلنا: ما روي عن ابن عمر: أنه قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا افتتح الصلاة.. رفع يديه حذو منكبيه، وإذا أراد أن يركع، وبعدما يرفع، ولا يرفع بين السجدتين»، ولأنها تكبيرة يتصل طرفها بسجود أو قعود، فلم يرفع فيها يديه، كتكبيرة السجود من القيام.
فإن ركع، أو سجد في الفرض بنية النفل.. لم يجزئه عن الفرض، وتبطل صلاته.
وقال أبو حنيفة: (يقع عن فرضه).
دليلنا: أنه ركن في الصلاة، فإذا أداه بنية النفل.. لم تجزئه، كتكبيرة الإحرام.